فصل: قال القرطبي:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



.فوائد لغوية وإعرابية:

قال السمين:
{بَلْ كَذَّبُوا بِمَا لَمْ يُحِيطُوا بِعِلْمِهِ وَلَمَّا يَأْتِهِمْ تَأْوِيلُهُ كَذَلِكَ كَذَّبَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ فَانْظُرْ كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الظَّالِمِينَ (39)}
قوله تعالى: {وَلَمَّا يَأْتِهِمْ}: جملةٌ حالية من الموصول أي: سارعوا إلى تكذيبهِ حالَ عدم إتيان التأويل. قال الزمخشري: فإن قلت: ما معنى التوقُّع في قوله تعالى: {وَلَمَّا يَأْتِهِمْ تَأْوِيلُهُ}؟ قلت: معناه أنهم كذَّبوا به على البديهة قبل التدبُّر ومعرفةِ التأويل، ثم قال أيضًا: ويجوز أن يكونَ المعنى: ولم تأتِهم بعدُ تأويلُ ما فيه من الإِخبار بالغيوب، أي: عاقبته حتى يتبيَّنَ لهم أَكَذِبٌ هو أم صدقٌ انتهى. وفي وَضْعه لم موضعَ لَمَّا نظرٌ لِمَا عَرَفْت ما بينهما من الفرق. ونُفِيَتْ جملةُ الإِحاطة بلم وجملةُ إتيانِ التأويل بلمَّا لأن لم للنفي المطلق على الصحيح، ولَمَّا لنفي الفعل المتصل بزمن الحال، فالمعنى: أنَّ عَدَمَ التأويل متصل بزمن الإِخبار.
و{كذلك} نعتٌ لمصدرٍ محذوف، أي: مثل ذلك التكذيب كَذَّب الذين من قبلهم، أي: قبل النظر والتدبُّر.
وقوله: {فانظر كَيْفَ كَانَ} {كيف} خبر لـ {كان}، والاستفهامُ معلِّقٌ للنظر. قال ابن عطية: قال الزجاج: {كيف} في موضع نصب على خبر كان، ولا يجوز أن يعمل فيها انظر لأنَّ ما قبل الاستفهام لا يَعْمل فيه، هذا قانونُ النحويين لأنهم عاملوا كيف في كل مكان معاملةَ الاستفهامِ المَحْض في قولك كيف زيد ولكيف تصرُّفاتٌ غيرُ هذا فتحلُّ محلَّ المصدرِ الذي هو كيفية وتخلعُ معنى الاستفهام، ويحتمل هذا الموضعُ أن يكونَ منها. ومن تصرُّفاتها قولُهم: كن كيف شئت وانظر قول البخاري: كيف كان بدء الوحي فإنه لم يستفهم. انتهى. فقول الزجاج لا يجوز أن تعمل انظر في كيف يعني لا تتسلَّط عليها ولكن هو متسلِّطٌ على الجملة المنسحبِ عليها حكمُ الاستفهام وهكذا سبيلُ كلِّ تعليقٍ.
قال الشيخ: وقولُ ابن عطية: هذا قانون النحويين إلى آخره ليس كما ذكر بل لكيف معنيان، أحدُهما: الاستفهامُ المحض، وهو سؤال عن الهيئة إلا أن يُعَلَّق عنها العامل، فمعناها معنى الأسماء التي يُستفهم بها إذا عُلِّق عنها العاملُ. والثاني: الشرط كقول العرب: كيف تكونُ أكونُ. وقوله: ولكيف تصرفات إلى آخره ليس كيف تحلُّ محلَّ المصدر، ولا لفظ كيفية هو مصدرٌ، إنما ذلك نسبةٌ إلى كيف، وقوله: ويحتمل أن يكونَ هذا الموضعُ منها، ومِنْ تصرفاتها قولهم: كن كيف شئت لا يَحْتمل أن يكون منها؛ لأنه لم يثبتْ لها المعنى الذي ذكر مِنْ كونِ كيف بمعنى كيفية وادِّعاءُ مصدرية كيفية.
وأمَّا كن كيف شئت فكيف ليست بمعنى كيفية، وإنما هي شرطيةٌ وهو المعنى الثاني الذي لها، وجوابها محذوف، التقدير: كيف شئت فكن، كما تقول: قم متى شئت فمتى اسمُ شرطٍ ظرفٌ لا يعمل فيه قم والجواب محذوف تقديره: متى شئت فقم، وحُذِفَ الجوابُ لدلالة ما قبله عليه كقولِهم: اضربْ زيدًا إن أساء إليك، التقدير: إن أساءَ إليك فاضرِبْه، وحُذِف فاضربه لدلالة اضرِبْ المتقدِّم عليه. وأمَّا قولُ البخاري: كيف كان بدء الوحي فهو استفهامٌ مَحْضٌ: إمَّا على سبيل الحكاية كأن سائلًا سأله فقال: كيف كان بَدْءُ الوحي، وإما أن يكونَ من قوله هو، كأنه سأل نفسه: كيف كان بدء الوحي؟ فأجاب بالحديثِ الذي فيه كيفيةُ ذلك.
وقوله: {الظالمين} مِنْ وَضْعِ الظاهر موضعَ المضمر، ويجوز أن يرادَ به ضميرُ مَنْ عاد عليه ضمير: {بل كَذَّبوا}، وأن يُرادَ به: {الذين مِن قَبْلِهِمْ}. اهـ.

.من لطائف وفوائد المفسرين:

من لطائف القشيري في الآية:
قال عليه الرحمة:
{بَلْ كَذَّبُوا بِمَا لَمْ يُحِيطُوا بِعِلْمِهِ وَلَمَّا يَأْتِهِمْ تَأْوِيلُهُ كَذَلِكَ كَذَّبَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ فَانْظُرْ كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الظَّالِمِينَ (39)}
قابلوا الحقَّ بالتكذيب لِتَقاصُر علومهم عن التحقيق، فالتحقيقُ من شرط التصديق، وإنما يؤمن بالغيب مَنْ لوَّح- سبحانه- لقلبه حقائق البرهان، وصَرَفَ عنه دواعي الرِّيَب. اهـ.

.تفسير الآية رقم (40):

قوله تعالى: {وَمِنْهُمْ مَنْ يُؤْمِنُ بِهِ وَمِنْهُمْ مَنْ لَا يُؤْمِنُ بِهِ وَرَبُّكَ أَعْلَمُ بِالْمُفْسِدِينَ (40)}

.مناسبة الآية لما قبلها:

قال البقاعي:
ولما ذكر سبحانه تكذيبهم، كان ذلك ربما أيأس من إذعانهم وتصديقهم، وآذن باستئصالهم لتكمل المشابهة للأولين، وكان صلى الله عليه وسلم شديد الشفقة عليهم والحرص على إيمانهم، فأتبعه تعالى بقوله بيانًا لأن علمه بانقسامهم أوجب عدم استئصالهم عاطفًا على: {كذبوا}، {ومنهم} أي قومك: {من يؤمن به} أي في المستقبل: {ومنهم من لا يؤمن به} أي القرآن أصلًا ولو رأى كل آية: {وربك} أي المحسن إليك بالرفق بأمتك: {أعلم بالمفسدين} أي الذين هم عريقون في الإفساد فسيعاملهم بما يشفي صدرك. اهـ.

.من أقوال المفسرين:

.قال الفخر:

{وَمِنْهُمْ مَنْ يُؤْمِنُ بِهِ وَمِنْهُمْ مَنْ لَا يُؤْمِنُ بِهِ وَرَبُّكَ أَعْلَمُ بِالْمُفْسِدِينَ}
اعلم أنه تعالى لما ذكر في الآية المتقدمة قوله: {فانظر كَيْفَ كَانَ عاقبة الظالمين} وكان المراد منه تسليط العذاب عليهم في الدنيا، أتبعه بقوله: {وَمِنهُمْ مَّن يُؤْمِنُ بِهِ وَمِنْهُمْ مَّن لاَّ يُؤْمِنُ بِهِ} منبهًا على أن الصلاح عنده تعالى كان في هذه الطائفة التبقية دون الاستئصال، من حيث كان المعلوم أن منهم من يؤمن به، والأقرب أن يكون الضمير في قوله: {بِهِ} راجعًا إلى القرآن، لأنه هو المذكور من قبل، ثم يعلم أنه متى حصل الإيمان بالقرآن، فقد حصل معه الإيمان بالرسول عليه الصلاة والسلام أيضًا.
واختلفوا في قوله: {وَمِنهُمْ مَّن يُؤْمِنُ بِهِ وَمِنْهُمْ مَّن لاَّ يُؤْمِنُ بِهِ} لأن كلمة يؤمن فعل مستقبل وهو يصلح للحال والاستقبال، فمنهم من حمله على الحال، وقال: المراد أن منهم من يؤمن بالقرآن باطنًا، لكنه يتعمد الجحد وإظهار التكذيب، ومنهم من باطنه كظاهره في التكذيب، ويدخل فيه أصحاب الشبهات، وأصحاب التقليد، ومنهم من قال: المراد هو المستقبل، يعني أن منهم من يؤمن به في المستقبل بأن يتوب عن الفكر ويبدله بالإيمان ومنهم من بصر ويستمر على الكفر. ثم قال: {وَرَبُّكَ أَعْلَمُ بالمفسدين} أي هو العالم بأحوالهم في أنه هل يبقى مصرًا على الكفر أو يرجع عنه. اهـ.

.قال القرطبي:

قوله تعالى: {وَمِنهُمْ مَّن يُؤْمِنُ بِهِ} قيل: المراد أهل مكة، أي ومنهم من يؤمن به في المستقبل وإن طال تكذيبه؛ لعلمه تعالى السابق فيهم أنهم من السعادة. ومنْ رفع بالابتداء والخبر في المجرور. وكذا {وَمِنْهُمْ مَّن لاَّ يُؤْمِنُ بِهِ} والمعنى ومنهم من يُصِر على كفره حتى يموت؛ كأبي طالب وأبي لهب ونحوهما. وقيل: المراد أهل الكتاب.
وقيل: هو عام في جميع الكفار؛ وهو الصحيح. وقيل: إن الضمير في {به} يرجع إلى محمد صلى الله عليه وسلم؛ فأعلم الله سبحانه أنه إنما أخّر العقوبة لأن منهم من سيؤمِن.
{وَرَبُّكَ أَعْلَمُ بالمفسدين} أي من يُصِرّ على كفره؛ وهذا تهديد لهم. اهـ.

.قال أبو حيان:

{وَمِنْهُمْ مَنْ يُؤْمِنُ بِهِ وَمِنْهُمْ مَنْ لَا يُؤْمِنُ بِهِ وَرَبُّكَ أَعْلَمُ بِالْمُفْسِدِينَ (40)}
الظاهر أنه إخبار بأنّ من كفار قريش من سيؤمن به وهو من سبقت له السعادة، ومنهم من لا يؤمن به فيوافى على الكفر. وقيل: هو تقسيم في الكفار الباقين على كفرهم، فمنهم من يؤمن به باطنًا ويعلم أنه حق ولكنه كذب عنادًا، ومنهم من لا يؤمن به لا باطنًا ولا ظاهرًا، إما لسرعة تكذيبه وكونه لم يتدبره، وإما لكونه نظر فيه فعارضته الشبهات وليس عنده من الفهم ما يدفعها.
وفيه تفريق كلمة الكفار، وأنهم ليسوا مستوين في اعتقاداتهم، بل هم مضطربون وإن شملهم التكذيب والكفر.
وقيل: الضمير في ومنهم عائد على أهل الكتاب، والظاهر وعوده على من عاد عليه ضمير أم يقولون، وتعلق العلم بالمفسدين وحدهم تهديد عظيم لهم. اهـ.

.قال أبو السعود:

{وَمِنْهُمْ مَنْ يُؤْمِنُ بِهِ وَمِنْهُمْ مَنْ لَا يُؤْمِنُ بِهِ}
قوله عز وجل: {وَمِنْهُمُ} إلخ، وصفٌ لحالهم بعد إتيانِ التأويل المتوقع، إذ حينئذٍ يمكن تنويعُهم إلى المؤمِن به وغير المؤمن ضرورةَ امتناعِ الإيمان بشيء من غير علمٍ به واشتراكِ الكلِّ في التكذيب والكفرِ به قبل ذلك حسبما أفاده قولُه تعالى: {بَلْ كَذَّبُواْ بِمَا لَمْ يُحِيطُواْ بِعِلْمِهِ} أي ومن هؤلاء المكذبين: {مَن يُؤْمِنُ بِهِ} عند الإحاطةِ بعلمه وإتيانِ تأويله وظهورِ حقّيتِه بعد ما سعَوا في المعارضة ورازُوا قواهم فيها فتضاءلت دونها أو بعد ما شاهدوا وقوعَ ما أَخبر به كما أَخبر به مرارًا، ومعنى الإيمانِ به إما الاعتقادُ بحقيته فقط أي يصدّق به في نفسه ويعلم أنه حقٌّ ولكنه يعاند ويكابر وهؤلاءِ هم الذين أُشير بقصْر اتباعِ الظنِّ على أكثرهم إلى أنهم يعلمون الحقَّ على التفسير الأول كما أشير إليه فيما سلف، وإما الإيمانُ الحقيقيُّ أي سيؤمن به ويتوب عن الكفر وهم الذي أشير بالقصْر المذكورِ على التفسير الثاني إلى أنهم سيتبعون الحقَّ كما مر: {وَمِنْهُمْ مَّن لاَّ يُؤْمِنُ بِهِ} أي لا يصدق به في نفسه كما لا يصدّق به ظاهرًا لفرْط غباوتِه المانعةِ عن الإحاطة بعلمه كما ينبغي وإن كان فوق مرتبةِ عدمِ الإحاطةِ به أصلًا أو لسخافة عقلِه واختلالِ تمييزِه وعجزِه عن تخليص علومِه من مخالطة الظنونِ والأوهام التي ألِفَها فيبقى على ما كان عليه من الشك، وهذا القدرُ من الإحاطة وإتيانِ التأويلِ كافٍ في مقابلة ما سبق من عدم الإحاطةِ بالمرة، وهؤلاء هم الذين أريدوا فيما سلف بقوله عز وجل: {وَمَا يَتَّبِعُ أَكْثَرُهُمْ إِلاَّ ظَنّا} على التفسير الأول، أو لا يؤمِن به فيما سيأتي بل يموت على كفره معاندًا كان أو شاركًا، وهم المستمرّون على اتباع الظن على التفسير الثاني من غير إذعانٍ للحق وانقيادٍ له: {وَرَبُّكَ أَعْلَمُ بالمفسدين} أي بكلا الفريقين على الوجه الأول لا بالمعاندين فقط كما قيل، لاشتراكهما في أصل الإفسادِ المستدعي لاشتراكهما في الوعيد، أو بالمُصرّين الباقين على الكفر على الوجه الثاني من المعاندين والشاكين. اهـ.

.قال الألوسي:

{وَمِنهُمْ مَّن يُؤْمِنُ بِهِ} وصف لحالهم بعد اتيان التأويل المتوقع كما قبل إذ حينئذ يمكن تنويعهم إلى المؤمن به وغير المؤمن به ضرورة امتناع الإيمان بشيء من غير علم به واشتراك الكل في التكذيب قبل ذلك فالضمير للمكذبين، ومعنى الإيمان به إما الاعتقاد بحقيته فقط أي منهم من يصدق به في نفسه أنه حق عند الإحاطة بعلمه وإتيان تأويله لكنه يعاند ويكابر وإما الإيمان الحقيقي أي منهم من سيؤمن به ويتوب عن الكفر: {وَمِنْهُمْ مَّن لاَّ يُؤْمِنُ بِهِ} أي لا يصدق به في نفسه كما لا يصدق به ظاهرًا لفرط غباوته المانعة عن الإحاطة بعلمه كما ينبغى أو لسخافة عقله واختلال تمييزع وعجزه عن تخليص علومه عن معارضة الظنون والأوهام التي ألفها فيبقى على ما كان عليه من الشك أولًا يؤمن به فيما سيأتي بل يموت على كفره معاندًا كان أو شاكًا: {وَرَبُّكَ أَعْلَمُ بالمفسدين} أي بكلا الفريقين على الوجه الأول من التفسير لا بالمعاندين فقط لاشتراكهما في أصل الافساد المستدعي لاشتراكهما في الوعيد المراد من الكلام أو بالمصرين الباقين على الكفر على الوجه الثاني منه. اهـ.